مرت تقريباً نصف ساعة .. وكلاَ الرجلين .. منغمسا فى تفكير عميق ...أحدهما يحملق فى سقف الغرفة و سيجارته تراوح و تتارجح بين اصابعه و فمه .. و ظهر واضحاً عليه انهُ غير معتدل المزاج او هناك ما يشغل تفكيره و يعكر الانظمة الفطرية فى عقله ...
بينما الرجل الاخر كان هادئاً جداً كعادته .. يتريض عقله بهدوء بين الافكار و الرؤى .. ولا ينشغل عن النظر الي صديقه و رفيق عمره، وبين بين الفينة والاخرى يلاحق نصفه المهموم بنظرات ثاقبة سريعة ليقرأه .. و ليعرف كيف يدلف اليه و يفهمه و يريحه او على الاقل يشاركه هموم تفكيره .. كان ما يفصل بينهما منضدة صغيرة وضعا عليها حاجياتهما،.... فترك الاول علبة سجائره التى بدئت فى النقصان بينما ازدادت مطفئة السجائر ازدحاما، ... بينما الاخر ترك صحفه اليومية وكتاب إبتاعه منذ قليل قبل دخوله ... وفجاءة انتفض الاول فى الثانى صائحاً
- مالك بتبحلق فيا كده ليه يا سيدى
- طاب صباحك بكل الخير يا صديقى
- صباح النور يا سيدى ... من ساعة ما انا قعدت، وانت عمال تبحلق فيا من تحت لتحت، .. فيه ايه .. اول مرة تشوفنى؟
- هذا صحيح .. لم يعجبنى حالك اليوم .. بدا عليك الكثير من الشرود و العصبية و الانزعاج .. كأنك تمسك بشىء فى عقلك، ثم سرعان ما يفر منك فيزيد انزعاجك اكثر
- صح .. حصل
- و ما كنت أقصد أن اتلصص على افكارك .. لكن شدنى الفضول بدافع المحبة أن أفكر معك فيما يؤرقك
- مفيش حاجة محددة تقدر تمسكها ... هما شوية افكار على ظنون على لوم على قرف على ندم على....
- على الله قصد السبيل
- ونعم بالله، بس فعلا فعلا دماغى عاملة زى ميدان التحرير .. هيصة و زحمة و صداع ... حاجة تروش ياخى
- رفقاً بنفسك ... والحل سهل وبيدك
- ازاى يا عم ؟.. ورينى سهل ازاى .. بس بلاش لف و دوران و فلسفة على الصبح
- سامحك الله .. إن كنت أشرت أن راسك اليوم مثل ميدان عام مزدحم ... فعليك بترتيب المرور .. لانك لو تركتها على هذا الحال سوف تزداد سوأ ... رتب يا رجل الافكار و نظم مرورها بحكم اهميتها فقط
- هاشتغل إشارجى مرور يعنى؟ .. طيب يا سيدى .. كل الحكاية شوية افكار عاملة زى الدبش فى دماغى عايز ارتبها .. كمان عايز افهمها من جديد
- ساحاول أن افهم و اعرف منك، ثم إن كان لِى رأى ساقوله ... لا تربكنى... و اعرض ما تريد فهمه من جديد .. و بـهدوء
- أول شىء بساله لنفسى كل يوم .......... انتا راضى عن نفسك ؟ .... الحكاية دى بتسبب لى مشكلة .. واحيانا بتسبب لى دوشة فى دماغى لانى لما بوصل لنص اجابة على الاقل .... موش ببقى عايز اوصل للنص التانى... و بستكفى كده .. بحس ان هتحصل مشكلة جوايا
- ومن قال لك أن الرضى عن النفس فى متناول اليد ... تلك معضلة ستبقى تراوغك الى أن تلقى الله .... وانت لست متاكد من أنك وصلت لشىء
- يعنى ايه يا عم؟ ... هافضل كده حيران و ملخبط و حالتى حال...!!؟ .. صدقنى يا خال .. صعب اوى الحاله الهباب دى .. بتعطلنى اوى
- ساريحك من همومك قليلاً... لتعرف يا رفيقى الطيب البسوم ... ان السعى لنيل الرضى عن النفس.. سعياً مقصوداً هو نوع من جلد الذات بشكل أو بأخر... فلا تبتئس ... فقط توقف عن البحث عن هذا الشعور حتى يداهمك هذا الشعور بنفسه ... دون سابق ترتيب ... او مواعدة ... او ترقب له
- يعنى ايه يا خال ... أكبر دماغى وابطل تفكير كده ... واسيبها تمشى لوحدها منغير سواق ... طيب وانتا المسئوال؟
- نعم سأكون مسئولا عما نصحتك به .. وانتظرك ريثما تقتنع و تباشر ما منحتك من نصح .. وسترضى لاحقاً عما اسلفت لك القول
- تعرف يا جدع انتا ... لما بتتكلم كده بتفكرنى بفاروق شوشة و بابا شارو ... والناس الرايقة دى .... اللى يسمعكم يقول الدنيا مفيهاش اى مشاكل .... سبحان الله فى روقانكم يا بشر
- هل تعرف السبب؟
- لو اعرف ... مكنتش قلت لك كلمة
- السبب انك تسعى دائما لتؤرق نفسك .. تنشد ما لا يحق لك المطالبة به الان .... إن تركت لطبيعة الاشياء تدور فى سياقها الطبيعى .. ستحظى بقدر معقول من القبول بما بين يديك .. ثم ستشعر ان نفسك قد هدها ترحال طويل .. وتحتاج للسكينة و الرضى .. وقتها سيهدأ بالك
- على كل حال يا خال ... احاول و نشوف..... كلامك اللى بالنحوى ده بيسحرنى اوى ... يارب يجيى منه فايدة ... معلشى اصل انا عارف نفسى.. هاتعبك شوية استحمل بقى
" ابتسم لتوه صاحبنا الهادىء .. و لوح لرفيقه بإشارة خفيفة ان يكف قليلاً عن التفكير الذى يجلب له الكثير من الأرق.. فصمتا لبعض الوقت، أحتسى الاول قهوته فى صمت .. بينما الثانى كان يدخن سيجارة جديدة .. و هو يفكر فيما سمع محاولاً استيعاب كل ما نصحه به رفيقه الهادىء ،... بعد دقائق قليلة هدئت النفوس و الادمغة.. و تهيأ كلاهما لمواصلة حوارهما"
- كما تعرفنى و اعرفك من سنيين طويلة .. أحيانا لا تحتاج منى أن اتكلم اليك كى تفهمنى
- ايوا .. صح كلامك .. لما بكون رايق و ابص فى عنيك .. بقدر اعرف عايز تقول ايه قبل ما تفتح بوئك بكلمة ... شكلك عايز تكمل القعدة النهاردة سكيتى ... صح؟
- سكيتى !؟ .. تقصد من حالة السكوت يتولد حوارنا... اوافقك انك فهمتنى .. و سأٌمتعك بما وهبك الله من قريحة .. ما عليك الا أن تنظر فى عينى مباشرة و تقرأ السئوال .. وتجيب بما يحلو لك ... انا اعتمد على فطرتك العجيبة المحببة فى فهمى و قراءة افكارى ... لك الكلام من الان.... و لىِ الصمت والاستماع
- يأبن الايه .!! ماشى يا سيدى ... لما نشوف اخرتها معاك ايه ... انا فاهم كويس انك بتعمل كده عشان تسيبنى اكلم نفسى و اطلع اللى جوايا .. بس خللى بالك .. لما ببص لك احيانا بلاقيك لئيم اوى .. و برضو بعرف اللى فى دماغك ... بس يارب الناس اللى موش هتقرأ سئوالك ... تقدر تخمن انت سألت عن ايه ..... يمكن يمكن من اجابتى يعرفوا يا لئيم انت سالت على ايه
- ....... ؟
- هاقولك يا سيدى ... حتى اللى جاى بيقلقنى ؟..لا قلقان ولا متنيل على عينى ... سايبها على اللى خلقنا
- ....... ؟
- متقليش ليه موش بقلق من بكرة .. يمكن انا غلطان ... لانى موش حاسس بخطر ... و طبعا الخطر ممكن يكون موجود .. بس طالما أنا موش حاسس بيه ... ملقتش نفسى قلقان لسه ... و جايز اكون غلطان
-....... ؟
- جايز اكون غلطان ليه؟... أأقولك ... أصل انا ساعات بنسى إن البنى ادم مننا بيكبر فى السن ... يعنى حتى الجسم موش بيساعد تعمل اللى كنت بتعمله زمان ... الحتة دى موش بحسها... الا لما ااجى احاول اعمل حاجة كنت زمان بعملها بسهولة .. أحاول اعملها دلوقتى.. الاقى النتيجة زفت و حاجة تكسف .. وقتها بحس انه فيه حاجة اتغيرت... حاجة ضعفت ... حاجة صعب ارجع لها تانى... و صعب كمان هيا ترجع ليا تانى
-....... ؟
- لالالالالالالالالالا ... يا راجل يا لئيم ... موش قصدى الموضوع ده... الله يخرب عقلك
-....... ؟
- تصدق كمان موش الجسم بس اللى موش بيطاوعنى ... دى حتى النفس كمان ... يعنى زمان كان حاجات صغيرة بترضينا ... دلوقتى اصلا اصلا ... موش عارف ايه اللى ممكن يرضينى
-....... ؟
- و بعدين فيك بقى .. ده سئوال يا راجل ؟
-....... ؟
- ايوا اتفقنا.. خلاص هاقولك ... مهمين جدا طبعا ... محدش يقدر يستغنى عنهم.. بس المشكلة انا موش عندى الا كرسى واحد ... موش معقولة اجيبهم و يفضلوا واقفين ... لازم يرتاحو ... لازم كمان احترم مشاعرهم ..لان اى حد ممكن يكون مكانهم فى يوم من الايام ........ على راى حليم
-....... ؟
- الصراحة اه ... انا موش هاكدب و اقولك لا... لكن دى الصراحة... بلاقى نفسى فى الحتة دى ... عشان كده قلت لك فى اول الكلام احيانا بنسى ان العمر و السنيين بتجرى و محسيتش بيها .. يمكن المسالة دى بالذات اللى بتخللينى اتنيل على عينى و انسى حاجات اهم
-....... ؟
- طبعا غلطان فى دى ميه فى الميه
- ....... ؟
- شوف بقى عشان ده سئوال غلس زيك .... لكن هاجاوبك .... محدش مننا عايز يبقى وحش أو منبوذ ... او حتى مهمل ... كلنا جوانا شعور أننا نبقى تحت الضوء .. بس المشكلة الوحيدة أن محدش يقدر يضمن هيقعد قد ايه تحت الاضواء ... عشان كده اللى عايز يقعد تحت الاضواء لازم يبقى عارف من اولها انها قعدة مؤقتة ... لان هيجى بعدك حد تانى يستحق الاضواء اكتر منك
-....... ؟
- ايوا طبعا مقتنع ... عشان كده موش بزعل ... وكمان موش بستمتع كتير بالقعدة.. لانى ببقى قلقان من اللى هيجى يقعد مكانى
-....... ؟
- ايوا ايوا السئوال ده بالذات بيخللينى أأقلق منك
-....... ؟
- قلقان... اكيد بقلق جداً ....هأشرح لك ليه ... لما بقلق ببدء أفكر .... ولما بفكر دماغى بتشتغل .... ولما دماغى بتشتغل اكيد هاوصل لشىء .... ولما بوصل لشىء اكيد بكون حسيت انى فهمته ... و لما بفهم الشىء بستعجب .... و اول مستعجب بحس ان ده طبيعى ... ولما بحس انه طبيعى انى استعحب انى فهمت شىء وصلت له لما دماغى اشتغلت فى شوية تفكير ..... فورا فورا بحس بالقلق تانى ... زى اول كلمة فى السطر
" يتبسم الرجل الهادىء.. مما سمعه من رفيقه الان ... و بالكاد ادرك فهم العبارة السابقة... ثم خرجت منه ضحكة عالية مسموعة رغماً عنه"
- بتضحك على ايه يا راجل يا سوهن
-....... ؟
- لا ابدا... كنت عارف انك هتفهمنى انا عايز ايه و بقصد ايه ... يعنى قصر الكلام ... البنى ادم مننا لازم يقلق لما يعرف ان الفهم موش بيجى كده خبط لزق... الفهم بيجى بعد شوية تعب ... والناس غالبا موش عايزة تتعب .... موش لانها موش عايزة تفهم ....لا ... موش عايزة تتعب ... عشان
-....... ؟
- لا موش هاكمل العبارة .... يا غلس ... عايز الصراحة؟ احيانا لما بنسعى نفهم و بيكون عندنا رغبة إننا عايزين نفهم بجد ... بنتعب كتير ... و ممكن فى الاخر النتيجة تطلع لا تستحق كل التعب و الوقت .. فالناس بتكبر دماغها بدرى بدرى .. وبتحب تمشى مغمضة حتى لو اتخبطت فى شجرة ... و جايز انا غلطان و الناس صح .. الله اعلم
-....... ؟
- لالالا كفاية اسئلة كده .. كفاية لت و عجن ... دماغى وجعتنى على الصبح و الناس اصلا موش هتفهم كلامى ......... هاروح اشرب سيجارة فى الهواء و ارجع لك ... يارب تجهز نفسك لما ارجع لك .. اه ايوا .. اشرب قهوتك وانا شوية و راجع
-
" همهم الرجل الهادى لرفيقه العصبى، المدخن الشره، بالموافقة على اخذ راحة قصيرة ... وفهم بالطبع انه سوف يعود ليساله بالصمت .. تبادلاً للادوار"
مر وقت طويل ... ولم يعد صاحبنا الاول ... بدء القلق يساور الرجل الهادىء على رفيقه ... مرت اكثر من نصف ساعة ولم يعد ... كان يدعوا له بأن يمنْ الله عليه بالتوقف على التدخين ... لكن غاب طويلا فى الخارج ... لملم الرجل الهادىء اشيائه ..كتابه و صحفه و اقلامه .. و أيقن ان رفيقه انشغل بشىء خارج مجلسهما و لن يعود اليه .. لم يغضب لذلك فقد تعود منه ما هو اكثر غرابة ... لبرهة قصيرة خمن فى سبب عدم عودة رفيقه الى الحوار و توصل لاستنتاج صحيح يعرفه عن صاحبه .. ابتسم لنفسه و هز رأسه فى رضى و قناعة أن عليه أن يتحمل كلاَ منهما الاخر ... حتى و إن انشغل الاخر عنه الان بتوافه الامور
تحياتى / عمر المصرى،